من المعلوم لدى الجميع أن نسبة انتباه الناس خلال السنوات الأخيرة أصبحت معدودة بالثواني، وخصوصاً حين يتعلّق الأمر باستهلاك المحتوى الرقمي. في يومنا العادي، نعطي مئات البوستات والعناوين والمقالات والصور بضعة ثوانٍ من انتباهنا، لكن رغم كل الانتباه الذي نصرفه على الشبكات الاجتماعية، سننسى معظم ما شاهدناه وقرأناه في اليوم قبل حلول موعد النوم.
خلال عملي في التسويق الرقمي، نعتمد في استراتيجيات المحتوى على احصائيات قد تكون مخيفة للبعض: معدّل تصفّح الزوّار لمعظم المواقع لا يتعدى دقيقة واحدة، ومعظمهم يقضون أقل من 7 ثوانٍ على كلّ صفحة. القارىء يفقد انتباهه بعد 150 كلمة في المحتوى المكتوب، وبعد 15 ثانية في مجال الفيديو. معظم الباحثين يقضون أقل من 3 ثوانٍ على صفحة نتائج البحث قبل أن يضغطوا على النتائج الثلاث الأولى – فيما تحصل كافة النتائج الأخرى على أقل من ذلك بكثير. هذه كلها بيانات اعتمد عليها يومياً في مجال عملي واحفظها عن ظهر قلب، لماذا بحق السماء إذاً لا أزال أكتب مقالات من آلاف الكلمات على مدوّنتي الشخصية؟
الحقيقة هي أن هذه البيانات عن قصر الانتباه لا تعطي الصورة كاملة. أفضل المحتويات الرقمية أداءً في محرّكات البحث وفي معظم المواقع (غير الشبكات الاجتماعية) هي دائماً المحتوى الطويل، سواء كان بودكاست أم فيديو أم مقالات (المحتوى الطويل المكتوب هو ما هو أكثر من 2000 كلمة، والمحتوى الطويل في الفيديو هو ما هو أطول من 10 دقائق)، وهي إحصائية تم إثباتها مراراً وتكراراً.
الحقيقة هي أن غالبية الناس لا تستهلك المحتوى الطويل كلّ يوم، لكن الغالبية ستستهلك المحتوى الطويل في نقطة معيّنة من حياتها. حين يكون لديك سؤال معيّن وتحتاج لإجابة حقيقية ومفصّلة، من الأرجح أنك لن تبحث عنها في تويتة أو في بوست فيسبوك، بل في محتوى أكثر تفصيلاً. الأمر هو بهذه البساطة، لكن ذلك ليس السبب في كون كتابتي طويلة.
لدي سبب آخر: أنا اكتب لنفسي أولاً قبل أن أكتب لأي شخص آخر؛ وحين أكتب، هدفي هو بأن يكون الشخص الذي ينهي قراءة المحتوى مختلفاً عن الشخص الذي بدأ بالقراءة، أي أن يكون قد تغيّر أو نمى فيه شيء ما. هذا النوع من الكتابة غالباً ما يصعب تحديده بعدد الكلمات.
*
ولماذا أتوقّف عن الكتابة لسنوات أحياناً
قد يعتقد البعض أن ما أعبّر عنه هنا ينمّ عن غرور أو تعجرف معيّن، لكن بالنسبة لي، الكتابة التي لا تنبع من تجربة شخصية حقيقية ليست كتابة، والكتابة التي لا تترك أثراً حقيقياً أيضاً ليست كتابة.
لا أحبّذ الكتابة لمجرّد الكتابة، وإلا لكنت بقيت صحافياً أعمل في نفس الجريدة طوال حياتي. كتابتي دائماً لها غاية، ومعظم ما اكتبه مرتبط بشكل أو بآخر بمشروعي الأساسي في الحياة: خلق نمط حياة برّي، حرّ، وبديل عن منظومة الموت والعقم التي تحكمنا، وإنشاء القبيلة التي ستحمله.
إنها مهمّة ليست سهلة أبداً – أن تكون الكتابة ذات أثر – وهي تعني في غالب الأحيان أنني سأنقطع لأشهر، وأحياناً لسنوات عنها. حين بدأت الكتابة، كنت أعلم دائماً أنني أريد أن انتج كتابين أو ثلاثة، يعبّران عن مشروعي، ليكون هذا النتاج أكثر من كافي للتوقّف عن الكتابة والتفرّغ للعمل على المشروع نفسه. طبعاً، أنتهى الأمر بي أنني كتبت كثيراً قبل أن ابدأ في الثلاثية التي أخطط لها، لكنني لا أزال اعتقد أن نوعية المحتوى، لا كميّته، هي العامل الأهم.
أحياناً، يحدث أن أنجح أو أفشل في أشياء معيّنة في حياتي، ويكون من المهم بالنسبة لي أن آخذ وقتاً لفهم التجربة وإعادة التقييم – ومنها إعادة تقييم نفسي كإنسان أحياناً – قبل أن أعود للكتابة، لأن أهم ما في الكتابة بالنسبة لي هو أن أكون صادقاً فيها، مع نفسي كما مع الآخرين، وإلا ستكون مجرّد هراء يمكن أن يكتبه أي شخص آخر.
أحياناً يكون ما أريد أن أقوله لم يكتمل بعد – إن فكرياً أو حياتياً، لأنني أريد أن أكتب فقط عمّا أعرفه بشكل حميمي، إما بالتجربة الشخصية أو بالدراسة المعمّقة. وأحياناً لا تسمح لي ظروف حياتي بالكتابة كما أريد، فأنقطع عنها حتى يحين الوقت المناسب.
حين اتحدّث عن ظروف الكتابة، لا أقصد الجانب التقني من الأمر لأنه هنالك دائماً وقت للجلوس أمام الحاسوب وكتابة شيء ما، لكني الأمر معي أنني لا اكتب إلا حين أشعر أن الكلمات تتدفّق من داخلي. أحياناً أجلس للكتابة وأشعر كأنني أجبر الكلمات على الخروج، فأتوقّف.
حين قرأ أحد الأصدقاء مقالنا المذكور آنفاً على مدوّنة اسكندرية، قال لي أن المقال هذا تمت كتابته على مدى 33 عاماً. طبعاً في الأمر مبالغة، لكنه فعلاً حصيلة دراسة وتجارب شخصية عديدة على مدى 7 سنوات – المرّة الأولى التي شرعت بها بكتابة ذاك المقال كانت في صيف العام 2012، ومؤخراً فقط حتى شعرت أن إجابتي الخاصة على السؤال المتعلق بالصراع بين الروحانية والعلم، قد اكتملت.
بذلك، الكتابة بالنسبة لي هي رحلة. رحلة لا امتلك فيها أجوبة مسبقة – بل أسئلة، فيها التفكير وفيها الدراسة وفيها السفر وفيها الأشخاص الذين التقيهم وفيها التجارب التي أعيشها. ولذلك حين أشرع بها، يصبح من الصعب علي تحديد الموضوع بعدد قليل من الكلمات، لأن حصيلة رحلات كهذه هي غنية، ومشاركتها مع الآخرين تعطيني بهجة داخلية معيّنة.
أحياناً تطول الكتابة لأنني أشعر كأنني أقوم بمحادثة مع صديق قديم؛ وحين قلت في البداية أنني أكتب لنفسي أولاً، أقصد أنني أخاطب ذاتي القديمة التي ابتدأت بالرحلة وأخبرها بما وجدته على الطريق من روائع (أو كوارث).
البهجة الحقيقية في الكتابة هي حين تكون رحلتي فيها الكثير من المعاناة، لأنها تعني أنه ربّما، سيكون هنالك صدفة معيّنة وسيقوم شخص ما بإيجاد إجابة أو إلهام أو سلوان في كتابتي في اللحظة المناسبة من حياته وستخفّ معاناته قليلاً.
لذلك أحاول أن يكون انتاجي المكتوب مرجعيّ قدر الإمكان، لأنه لا يهمني كثيراً أن يقرأه عشرة آلاف شخص الآن وينساه في آخر اليوم، بل يهمني المئة الذين سيساعدهم هذا المحتوى في رحلتهم في الحياة. حين أكتب أي شيء، أعلم تمام العلم أنه سيكون هنالك عدد قليل سيقرأوه غداً، ولكنني أعلم تمام العلم أيضاً أنه سيكون هنالك أشخاص يقرأوه بعد عشرة سنوات من الآن ويجدون فيه شيئاً يبحثون عنه في حياتهم في تلك اللحظة.
معظم ما اكتبه ليس شيئاً سيودّ الجميع قراءته في اللحظة التي يُنشر فيها، لكنه محتوى سيأتي في اللحظة المناسبة إلى حياة القارىء حين يكون مستعداً له، وهنالك دائماً لحظة كهذه في حياة الجميع